Warning: htmlspecialchars(): charset `windows-1256' not supported, assuming utf-8 in /home/multazem/public_html/radiabdeljawad.com/include/main_fuc.php on line 32

Warning: htmlspecialchars(): charset `windows-1256' not supported, assuming utf-8 in /home/multazem/public_html/radiabdeljawad.com/include/main_fuc.php on line 32

Warning: html_entity_decode(): charset `windows-1256' not supported, assuming utf-8 in /home/multazem/public_html/radiabdeljawad.com/include/main_fuc.php on line 1409

Warning: html_entity_decode(): charset `windows-1256' not supported, assuming utf-8 in /home/multazem/public_html/radiabdeljawad.com/include/main_fuc.php on line 1435
الفصل الرابع من روايتي غير المنشورة

Warning: strtotime(): It is not safe to rely on the system's timezone settings. You are *required* to use the date.timezone setting or the date_default_timezone_set() function. In case you used any of those methods and you are still getting this warning, you most likely misspelled the timezone identifier. We selected the timezone 'UTC' for now, but please set date.timezone to select your timezone. in /home/multazem/public_html/radiabdeljawad.com/include/main_fuc.php on line 262

الفصل الرابع من روايتي غير المنشورة

الشاعر راضي عبد الجواد - الأربعاء 1 / 04 / 2015 - 12:21 صباحاً تصغير الخط تكبير الخط

الفصل الرابع

عندما وصلت إلى البيت كانت أمّي تروح و تجيء محتضنة المذياع الجديد الذي اشترياه مؤخّرا 0 كان المذياع على شكل صندوق كبير أزرق من "البلاستيك"، يعمل بست بطّاريّات جافّة كبيرة الحجم 0 لقد اعتاد أبي أن يضعه على ظهر صندوق خشبيّ وضع أمام سرير حديديّ قديم جلست العائلة عليه في فناء الدار أيام الصيف0 كانت أمّي تنصت يشغف كبير إلى البيانات النّاريّة التي كانت تبثّها الإذاعات العربيّة0

كانت ، وسط فناء الدّار ، شجرة ليمون تظلله طوال النّهار تقريبا 0 لم يكن ذلك لكبر الشّجرة ، بقدر ما كان ذلك لصغر الفناء 0 كان أبي-كغيره من سكّان المخيّم - قد أضاف إلى الغرفة التي منحته إيّاها وكالة الغوث الدولية بقالة صغيرة للمواد التموينية تضيق بحركة كرسيه المتنقل و غرفة لاستقبال الضّيوف وجدارا عاليا أصبح يسترنا من أعين المارّة في الطريق0 كما أنشأ في طرف البيت مطبخا صغيرا و مرحاضا أصغر، في وقت كان فيه الكثير من الجيران لا زالوا يستعملون المراحيض العمومية المشكّلة من مكعّبات إسمنتيّة مستطيلة ، متناثرة في الشّوارع ، مخلوعة الأبواب في معظم الأحيان ، تزكم رائحتها أنوف المارّة عن بعد كبير0

دخلت البيت فكانت أمّي تعدّ طعام الإفطار كالعادة 0 كان أبي قد أقفل البقالة و دخل إلى البيت من كوّتها الصغيرة التي تفصل بينهما و أسند ظهره إلى ظهر كرسيّه المتحرّك الذي كان قد تعوّد عليه الآن 0كان سارح الفكر غير مكترث بما يبثّه المذياع من بيانات عسكريّة أو أغان وطنيّة حماسيّة0 ابتسم و هزّ رأسه سخرية عندما سمع أمّ كلثوم تلعلع في " صوت العرب " بأعلى صوتها " راجعين بقوّة السّلاح " 0 و بصوت كلّه برودة مغلّفة بسخرية ظاهرة يائسة ، و بمرارة باطنة لاذعة ، قال لي و قد أحسّ بأنّني قد جئت لإنقاذه:
- حوّل بث هذا المخسوف إلى محطّة أخرى0 لا أريد سماع المزيد من هذه التراهات0

لقد كنت أنتظر اللّحظة التي أرى فيها أبي لأزفّ له نبأ اصطيادي لملك الطيور الذي أصبح الآن رهينة في قفصي0 و لكنّني للحظة كدت أن أنسى كل عصافير الدنيا 0 " أيعقل أن يقول هذا أبي الذي قالت أمّي إن أحدا في الدنيا لم يكن بمثل حماسه الوطني و اشتياقه للمعركة التي ستعيد فلسطين إلى أصحابها؟ الآن أذكر ما حدثتني إياه أمي- يوم أوديتُ بعموده الفقري إلى الشلل- عن السبب الذي غيرّه:

" لقد كنتَ في السنة الثانية من عمرك عندما كاد أن يودي بحياته إلى الهلاك بعدما سمع بمذبحة كفر قاسم 0 يومها حين سمع بأنّ العشرات من أبنائها المسالمين قد ذبحوا بدم بارد، فارَ دَمُه‘ فخرج من البيت كالمجنون حاملا سكّينا فتبعته و رجوته أن يعود و لكنني لم أستطع رده 0 لقد أفلت مني و لم أجد له أثرا بين خيام المخيّم 0كما لم أعلم عنه شيئا إلاّ عندما جاء به الجيش الأردني في اليوم التالي بعد أن أمسكوا به و هو يهمّ باجتياز الحدود إلى فلسطين المحتلة 0 و لولا ذلك النزيف الحاد الذي أصابه به المحققون في رأسه يومها، و لولا إقناع جدك و أهل المخيم لهم بجنون أبيك، و لولا تدخّل و وساطة جدّك الذي كان قد عرف في المخيّم أنّه كان مختارا محترما لقريتنا المهجورة، لكان أبوك يقبع في السّجن حتّى الآن0 بل ليته فعل ذلك0 لقد كانت ملابس أبيك ممزقة و غارقة في الدم و قد ظننت للحظة أن أجل أبيك قد أتى عندما قذفه الجنود من ناقلتهم أمام الخيمة و فرّوا بل تمنيت يومها لو أنني لم أعرفه أبدا0 فلم يعد أبوك الرجل الذي عرفته من قبل0 فما أن أخذت بيده لأرفعه عن الأرض حتى صرخ بي بصوت لم أعهده منه من قبل:
- سليمة! اتركيني يا سليمة 0 سأري هؤلاء الأوغاد من يكون سعيد فرحان 0 سأري هؤلاء العملاء من يكون زوجك يا سليمة0
- بسم الله الرحمن الرحيم0 اسم الله حولك يا أبا فرحان0 أنا زوجتك رحيمة، ما بالك نسيت اسمي؟ ما الذي فعله لك هؤلاء الأوغاد ؟
- لقد قتلوا فرحاناً و تسألينني ما الذي فعلوه ؟
- اسم الله حولك يا أبا فرحان0 هذا هو فرحان بين يدي فمن الذي قتلوه ؟
- فرحان000سليمة000 السائق000 حيفا 0000المنسي000 اللجون000
- اسم الله حولك0 بسم الله الرحمن الرحيم0 أدخل إلى الخيمة و هدئ من روعك0

أدخلته إلى الخيمة و قد أصيب بما يشبه القشعريرة و أخذت أمسح وجهه بالماء و أنا أبسمل و أحوقل و أتعوّذ بالله إلى أن هداه الله و هدأ فأخبرني بسره الذي ظل دفينا طيلة تلك الأعوام الثمانية0


نظرت إلى ابي و قد اختلط الأمر علي فلم أعد أعرف إن كنت حزينا للجرح المندمل الذي نبشته في رأس أبي هراوات الجنود قبل أحد عشر عاماً، أم لذلك الطلق الناري الذي شلّه و ألصقه بهذا الكرسي البغيض قبل عامين اثنين0 غلا الحزن على أبي في داخلي فأردت أن أبكي0 قلت في نفسي:

"لماذا كلّما جرفنا إليك الشّوق يا وطني ، فتظاهرنا أو حملنا سكّينا، احتشدت و تدجّجت بأفتك الأسلحة جيوش الأصدقاء؟ أليس من حقّ الذّبيح أن يتألّم، أن يئنّ أو أن يلفظ أنفاسه الأخيرة دون مضايقة من الأصدقاء؟"

جال نظري بين المذياع و كرسي أبي المتحرك فقلت في نفسي:

" ما كنت في يوم لأستطيع أن أرفض لك طلبا أيّها العظيم الذي حاولوا أن يسقطوك لكي لا يسقطوا0 أنت الذي يستحقّ أن أنصت إليه ، لا هذه الإذاعات البلهاء 0 أجل البلهاء، بل و الكاذبة0 لو كانوا يريدون تحريرها لما منعوه عنهم و شجوا رأسه و لما اقتنصت ظهره رصاصتهم0 و لكن لا بأس يا أبتِ0 أنت الذي علمتني معنى المحبّة للوطن0 و إذا كنت الآن تطلب هذا منّي؛ فليس بوسعي إلاّ أن أطيع0"

توجّهت نحو المذياع فأدرت مفتاح البحث عن المحطّات ،فكانت إذاعة عمّان تبثّ أغنية " مرحى لمدرّعاتنا ". لم أكد أميّز الأغنية حتّى كانت كأس الشّاي التي في يد أبي قد انطلقت من يده كرصاصة تمزّق لعلعة المذياع الذي سقط إلى الأرض لا ينطق حرفا0

ساد الوجوم وجوهنا، حتّى وجه أبي الذي آلمه أن يراني أتوجّع من سخونة الشّاي الذي رشق بعضه على يدي و ذراعي0 أرادت أمّي أن تلوم أبي على ذلك كعادتها و لكنّها صمتت كما لم تصمت من قبل 0 وجدتُ نفسي مضطرّا إلى كسر طوق الصّمت الذي لفّنا:
- انظرا إلى ما اصطدته اليوم 0 انظرا 0

ابتسم لي أبي من بعيد ابتسامة تحمل كلّ معاني الاعتذار و المراضاة0 مدّ يده ليحرّك دولاب كرسيّه المتحرّك ، متّجها إليّ و قد كنت أسرع منه في وصول أحدنا إلى الآخر0

- ما أجمل عصفورك ، يا فرحان !

أحسست براحة كبيرة أنستني ألم الحريق ، فأرخيت رأسي بين يدي والدي الذي ضمّني إلى صدره 0كادت الدّمعة أن تفرّ من عيني ، عندما تراءت لي تفاصيل حادث إصابة أبي الذي مرّت الآن عليه سنتان 0 أردت أن أبكي ، فلعلّني أتطهّر من عقدة الذّنب التي لفّت حبالها حول عنقي كلّما عاملني أبي بلطف كرهته و وددت لو أنّ أبي استبدله بقسوة شديدة و عاقبني أشدّ عقاب فيمحو خطاياي كما تمحو النّار الإلهيّة ذنوب الخاطئين 0قلت لأبي ممتنّا:

- أنت الوحيد الذي فهمني ، يا أبي0 لماذا أحبط الجميع فرحي بينما شجّعتني أنت كما لم يشجّعني أحد ؟ إنّها المرّة الأولى التي أحسّ فيها أن اسمي ينطبق على حالتي النّفسيّة 0 لماذا أهملني الناس الملتفّون حول المذياع هكذا ؟

- دعهم و شأنهم 0سيتحسّرون فيما بعد على ثمن "بطّاريّات" المذياع التي ستكون قد ذهبت هدرا 0
- و لكن ، لماذا يا أبي ؟
و بلهجة مفتعلة صاح بي :
- أرني عصفورك ، يا ولد !
- خمّن ، يا والدي ، أ يّهما الذي اصطدته اليوم ؟
- ذلك الذي يناطح جدران القفص بمنقاره ، بالتأكيد0
أردت أن أمازحه :
- لا ، ليس هو0 هذا هو العصفور القديم0
ابتسم أبي و قال:
- لا يمكن ، يا بنيّ 0
- ولم لا ؟
- لأنّ العصفور القديم قد استسلم لقدره بعد أن فقد الأمل، أمّا العصفور الجديد، فلا يزال مذهولا و مذعورا من شدّ الصّدمة 0 أفهمت ؟ أم أنك تحاول أن تهزأ بي ؟


- معاذ الله 0فقط كنت أريد أن أعرف كيف سأميّزهما و هما على هذا الحال من التّشابه 0على كلّ حال ، هل هذا يعني أنّني لن أميّزهما عن بعضهما بعضا فيما بعد ؟

ظلّ أبي ، طوال ثلاثة أيّام ، يستخسر " البطّاريّات" على الأخبار و البيانات التي كان الناس ينصتون إليها0 ظلّ يتهرّب منهم كلّما حاولوا إقحامه في الحديث عن الحرب0 قبل الحرب بأيّام سمعت أحد الجيران ، الذي كان يتباهى بأنّه قد عمل ، فترة من الزّمن ، معلّما في الجزائر ، يقول لأبي:
- أنت من الطّابور الخامس0
لم أفهم معنى هذه الجملة و لكنّني اشتممت فيها رائحة الإهانة لأبي0 و بصورة عفويّة رددت على المعلّم :
- إذا كان أبي من الطابور الخامس ، فأنت إذاً من الطابور العاشر 0

همز لي أبي مؤدّبا لي بعباسة من عينيه ، تلتها بسمة ، ثمّ انفلتت من بين شفتيه ضحكة ، بل قهقهة انتقلت عدواها إلى جميع الحضور ، حتى أولئك الذين لم يفهموا السّبب مثلي0
- سامحك الله ، يا بنيّ 0

كانت معاملة أبي لي معاملة طيّبة دائما ، فيها الكثير من الرّفق ، و كان كثيرا يقول :
- لا أعلم لماذا أحسّ بأنّ قلبي يرقّ لهذا الولد أكثر ممّا يرقّ لأيّ إنسان آخر! أهو الشعور بالأبوّة فقط ؟ أم هل هو الشّوق المتكدّس في القلب طيلة تلك السّنين التسع من الانتظار مع " أمّك" سليمة...؟ "

قبل أن تحدّثني أمّي قصّته مع الخالة سليمة التي لم تسلم ، كنت أظنّه يتوه عن اسم أمّي رحيمة ، إذا ما ناداها " يا سليمة "0 أمّا الآن فقد أصبحت لا أتحدّث عنها إلاّ باعتبارها " أميّ سليمة 0" لم أكن لأقابل زوجة أبي الشّهيدة بأقلّ من مثل هذا الحبّ و التبجيل0 كما لم أَكٌنْ أٌكِنّ‘ لأبي غير الحبّ الجارف0 كنت في كثير من الأمسيات أطرق باب صومعة الصّمت التي كانت تطبق دائما عليه0 كثيرا ما رجته أمّي الخروج على كرسيّه المتحرّك للتّنزّه كي لا يقتله الصمت الذي يلفّه ، فلم يكن يقبل ذلك 0 و لكنني وحدي الذي كان – دون مشادّة أو رجاء – يمسك بظهر كرسيّ أبي المتحرّك ، دافعا إيّاه إلى خارج البيت، فتنساب العجلة ، دون مقاومة منه ، على الشارع المعبّد حديثا أعلى المخيّم على الطّريق الواصل بين المدينة و الأغوار، فيدور الحديث بيننا في شتىّ المواضيع كصديقين حميمين .

قال لي مرّة :
- أتدري يا بنيّ ؟ الشّلل الجسديّ ينقذك من الشّلل العقليّ0 يجعلك تفكّر وتتأمّل في كلّ شيء0 لقد كانت قواي العقليّة مستنفذة في حركات جسمي و في ركضه الدّائم هنا و هناك 0أمّا الآن ، فأشعر بأنّ عقلي يأخذني إلى أبعد مما أوصلتني إليه قدماي 0لقد أصبحت أغوص في أدقّ تفاصيل الحياة فأفهمها أكثر 0في السابق ، كنت أعيش الأحداث ، أمّا الآن فأفهمها أيضا0
لم أفهم الكثير من هذه السفسطة الفلسفيّة ، و لكنّني كنت أحسّ بأنّه يبرّر وضعه الصّحّيّ ، فأفاجئه بالسؤال :
- و لكن ، هل أنت سعيد يا أبي ؟
-إذا لم أكن أنا سعيدا ، فمن يكون سعيدا ؟ أمّك ؟ أمّك رحيمة يا ولد0

ابتسم ثمّ ضحك فأجبته :
- لا .أمّي رحيمة و أنت سعيد طبعا0
- الحمد لله على أنّك لا زلت تذكر اسمي 0

قهقهنا كعادتينا إلى أن تلاقت عينانا و غابتا سارحتين في البعيد غير المرئي. في كلّ مرّة ،كنت أحسّ بأنّ لدى والدي إجابات ذكيّة ، تمكّنه من تحصين قلعته النّفسيّة أمام كلّ محاولة اقتحام ، حتّى ولو كانت على يدي أنا الذي كثيرا ما ظننت أنّني أمتلك مفاتيحها0

سحبت رأسي من بين يديه برفق و انشغلت بعصفوري الجديد سائلا أبي :
- ما رأيك لو وضعته في قفص المصيدة ذاتها ؟ سأضع له وعاء للأكل و آخر للماء 0
- أتعلم ؟ لو أنني لم أكن أقدّر حبّك للعصافير و شغفك بها ، لطلبت منك أن تطلق سراحه في الحال 0ولكن ما دام الأمر كذلك ، فإنني أرجو- على الأقل – أن تضعه في قفص أوسع من هذا0 ما رأيك لو أبقيته في القفص ذاته؟ سيكون ذلك أكثر حرّية و إيناسا له 0 الطيور و الحيوانات عموما كالبشر اجتماعية بطبعها 0 فإذا حرمتها من حرّيتها ، فلا تزد من شعورها بالعزلة0
- أنت محق ، يا والدي0 سأبقيه في القفص ذاته. لا ، بل و سأبعده قدر الإمكان عن حركتنا 0 لقد سمعت العم عمر،صيّاد العصافير الأقدم في المخيّم و المنطقة يقول بأنّه لكي تجعل العصفور الذي تصطاده يهدأ ، و بالتّالي يفطن إلى طعامه و شرابه ، فيأكل و يشرب فيعيش ، بدلا من أن ينهك بمحاولات الهرب فيموت ، وفّر له الهدوء بعزله عن الناس و لو "بخرقة" قماش تخفي عنه رؤيتهم 0
- وفّقك الله ، يا فرحان0 و الآن ، هيّا يا سليمة –أقصد يا رحيمة - دعكِ من هذا المذياع الذي في يدك 0لقد برد الفطور الذي أعددته 0

جلست‘ على السّرير قرب المائدة المنضّدة على الصندوق الخشبيّ تحت شجرة اللّيمون 0أمّا أبي فقد قرّب كرسيّه المتحرّك من المائدة ونظر إلى طبق الحمّص الشّهيّ الغريق في زيت الزيتون و إلى البصلة المستقرّة على المنضدة 0 و عندما وقع بصره على حبّات الزّيتون المتوضّئة بالزّيت ، وجد نفسه يقول لي بصوت عال و على نحو مسرحيّ مفتعل :
- يا ولد ، احتفاء بحسّونك الجديد ، اقفز إلى الشّجرة و أتني بأكبر حبّة ليمون فيها0 يجب ألاّ يعكّر صفو هذا اليوم أيّ شيء مهما كان0

قطفت حبّتي ليمون و عصرتهما فوق الزّيتون و الحمّص و انهمكنا الاثنان في تناول فطورنا ، أ مّا أمّي فقد بدا عليها أنّها تراقبنا ،بينما كان عقلها، في الواقع ، في مكان آخر 0 لقد أخذ الحنين إلى الماضي يصبح الآن واقعا يتجسّد أمامها0 فتارة وجدت نفسها طفلة صغيرة تلعب في فناء قصر أبيها القديم في جبع حيفا ، و تارة أخرى ، تخيّلت نفسها تعود مع أبي و معي لتزور دار أبيها - الذي سيعود مختارا للقرية - ، فترجع محمّلة بشتّى الهدايا من منتجات نباتيّة و حيوانيّة ، طازجة و مجفّفة ، كما كانت تفعل خالتي الكبيرة أيّام جبع0

في صبيحة هذا اليوم ، و بعد أن سمعت بنبأ الحرب ، ركضت أمّي إلى غرفة النّوم ، فقلبت الفراش المرتّب رأسا على عقب 0كان تحته صندوق حديدي كانت تقول إنّه " حقيبة عرسها "0 أخرجت من الصّندوق مفتاحا صدئا كبير الحجم و أوراقا بالية ذات رائحة عفنة و قالت :
- هذا مفتاح دار جدّك في جبع . و هذه أوراق ملكيّة أبي لأراضيه هناك0 بعد زواجنا بأربعة أعوام ، أعطاني إيّاهما أبي عندما هاجر من هنا إلى بغداد قائلا: " إذا عدتِ إلى البلاد قبلنا ، اهتمّي بالبيت و بالأملاك إلى أن نعود نحن أيضا". و هاهو الوقت قد حان ، ولو بعد تسعة عشر عاما 0حاول أبي خطف المفتاح و الأوراق منها ، فتمسّكت بهما و قالت:
- أعلم أنّك ستلقيهما في القمامة ، لو أمسكت بهما ، و لكن سترى فيما بعد أنّ تمسّكي بهما لم يذهب سدى0 لقد كانت لي دوما أسبابي في الرّغبة في العودة إلى مسقط رأسي ، فعلى الأقل أنا أعرف أنّ هناك قصرا ينتظرني ، وأنّ هناك أملاكا كثيرة سنأخذ قسطا منها عندما يعود أبي من بغداد0 لقد قال إنّ أوّل شيء سيفعله عندما يعود سيكون تقسيم أملاكه بين أولاده ، الإناث منهم قبل الذّكور0 و أمّا أنت فواحسرتي عليك ! ما الذي سيجعلك ترغب في العودة إلى بلدك ؟ في حيفا ، كنت مجرّد عامل في البلديّة 0و لم تكن تملك بيتك الذي كنت تعيش فيه في حيفا0 أمّا في مسقط رأسك ، فلم يكن لك في أمّ الفحم كلّها شبر أرض واحد 0 لقد باع جدّك أراضيكم بأحشاء وأطراف خراف و أبقار و لم يترك لكم شيئا 0لقد قتلتكم بطونكم أيّها المسعورون0
- متى ستفهمين أنّ الوطن أكبر من قطعة أرض و أكبر من أكبر قصر ؟ الوطن – بالنّسبة لي – هو المكان الذي يشعرني بالأمان ، حتّى لو كان ذلك المكان رصيف شارع أو محطة حافلة أنام فيها0
- تعني أنّك سترجع إلى العيش وسط الجرذان التي كانت تحبو فوق رؤوسنا طيلة اللّيل؟ في قريتكم ، كان الجرذ بحجم القط0 بينما في جبع ،كانت حبّة الجمّيز بحجم البرتقالة 0
- أنا لم أقل إ نّني سأرجع ، لا إلى أم الفحم و لا إلى حيفا 0 هذه أضغاث أحلامك أنت 0دعينا من هذا ، و دعي الولد يفطر بلا جرذان و بلا مفاتيح صدئة و أوراق بالية عفنة 0

كان أبي قد تعوّد على هذا النّوع من التّراشق بالكلام ، فلم يعقه ذلك عن التّلذذ بإفطاره الشّهيّ 0

طوال اليومين الأوّلين للحرب ، كانت فرق الدّفاع المدني ، ا لتي تشكّلت قبل أسبوعين فقط من بداية الحرب ، و التي زوّد بعض أفرادها بمسدّسات من عيار ستّة " مليمترات " تجري تدريباتها ، و تطلق صفارات إنذارها كلّما زأرت في الأفق طائرة 0 و كان أفراد الدّفاع المدني يطلقون الرصاص على الطّائرات من مسدّساتهم التي كانت تشبه مسدّسات الأطفال التي يلهون بها في الأعياد 0

في بعض الأحيان كانت تسمع سلسلة من الطّلقات من مدفع الخمس مائة ، فكان الناس يحسّون بأمان أكثر0 أمّا حسّوني البائس فكان يتجمّد في مكانه كلّما زأرت طائرة أو دوّت رصاصة أو قذيفة 0 لقد طالت الحرب أكثر ممّا توقّع لها الناس 0كانوا يقولون إنّها ستستغرق يوما أو بعض يوم ، و لكنّها لم تنته بعد0 لقد قال عبد الناصر إنّ صواريخ القاهر و الظّافر لن تبقي في إسرائيل حجرا على أخيه ، و لكنّهم لم يسمعوا بأيّ منها . ثمانية و أربعون ساعة و الناس يشحذون الهمم بالإنصات إلى أحمد سعيد في " صوت العرب" ، و إلى طلبه من سمك البحر المتوسّط أن يتضوّر جوعاً في انتظار الوجبة الدّسمة التي ستلقي له بها الجيوش العربيّة 0 أمّا أبي فقد علّق على هذا قائلا:
- هذا السّمك سيموت جوعا إن أنصت لكلامك ، أيّها المعتوه0

منذ اليوم الأوّل و الناس يتحدّثون عن التّحرير0 أمّا أبي ، فكان يقول بلهجة واثقة جدّا :
- سيدخلون إليكم من الشّرق ... من الغور ... من غور الأردن0 سترون ذلك بأعينكم 0

و مرّة أخرى سمعت رجلا غير المعلّم الذي علّم في الجزائر يقول لأبي:
- أنت من الطّابور الخامس 0
قلت لأبي :
- ما الذي يعنونه بهذه العبارة ؟
- لا أعرف بدقّة ، و لكنّها عموما تطلق على كلّ من يحطّم معنويّات الآخرين0 يقولون إنّ هذا اقترن بالفرقة الخامسة في الجيش الألماني النّازيّ في الأصل 0
- و لكن ، حقا يا أبي ما الذي يجعلك متشائما إلى هذا الحد ؟
قال مراوغا :
- هل أراهنك على أنّك لم تتفقّد أمر عصفورك اليوم ؟ بعد ظهر هذا اليوم، كان قطّ الجارة أم عوض يحوم حول القفص فنهرته و أبعدته عنه 0 اذهب و تفحّص أمره0

ركضت إلى الملك الفتّان الجديد الذي في قفصي ونسيت كلّ شيء ورائي و رحت أجدّد له الماء و أقدّم له المزيد من الأكل 0

في صبيحة اليوم الثالث للحرب ، و على الشّارع الرئيسيّ الذي يحاذي المخيّم من النّاحية الغربيّة ، موصلا المدينة بغور الأردن ، مرّت قافلة لا تنتهي من الدّبّابات و "المجنزرات" و ناقلات الجنود ، متّجهة إلى المدينة من الشرق إلى الغرب 0 تواردت الأنباء في المخيّم عن وصول الإمدادات العسكريّة العربية0 خرجت النّساء قبل الرّجال و الأولاد لملاقاة هؤلاء الأبطال الذين سيحرّرون لهم بلادهم 0 استقبلتهم النّساء بالزّغاريد و الأهازيج و التّلويح بالأيدي و بالدّعوات بالنّصر المبين 0 كادت امرأة من شدّة لهفتها أن تخرج ثديها و هي تدعو:
- فلينصركم الله على أعدائكم 0

في مجلس أمام بقّالة في الحارة ، جلس على مقاعد القشّ القصيرة جمع من رجال الحارة الذين أصبحوا بين عشيّة و ضحاها محلّلين عسكريّين و خبراء سياسيّين 0 قال المعلّم الذي افتخر دائما بأنّه علّم في الجزائر:
- هذه قوّات جزائريّة 0
ردّ عليه آخر :
- لا. هذه قوّات عراقيّة0
- هل تريد أن تعلّمني كيف يكون شكل العلم الجزائري ؟ لقد عملت معلّما هناك . أنا أعرف شكل علمهم 0إنّه هو بذاته 0

استفزّ هذا الكلام الجارة أ مّ عوض التي لم تدر كيف قالت منفعلة :
- عليّ الطّلاق ، إنّهم يهود 0 لقد رأيت علمهم كثيرا أيّام يافا0

لم تكن أ مّ عوض امرأة عاديّة 0 تحسبها رجلا عندما تتكلّم0 كانت طويلة القامة ممتلئتها 0كانت طيّبة القلب صارمة القرار ، تفرض احترامها على الجميع ، رغم أنّ ألفاظها كانت أحيانا تتّسم بالقسوة ، بل حتّى بعدم الأحتشام0 دفعني الفضول ، و قد أنصتت لهم ، إلى الصّعود إلى الشارع الرّئيسيّ، فوجدت الجوّ الاحتفاليّ البهيج يدفعني إلى التّلويح للجنود 0 قلت لصديقي ثابت:
- لا يمكن أن تكون هذه المرأة الأمّيّة أذكى من المعلّم 0أنظر إلى ذلك الجنديّ الذي يبتسم لنا 0كم يعجبني منظر هؤلاء الجنود الأبطال 0إنّهم عظماء0 يأتون من بلادهم ليدافعوا عنّا وليحرّروا بلادنا0
- أ ليسو عربا مثلنا ؟ هذا واجبهم أيضا 0 ثمّ إنّهم بهذا يدافعون عن أنفسهم أيضا 0قل لي : أين ستسكنون عندما ستعودون ؟
- في بيت جدّي 0أعني والد أمّي 0 إنّه قصر كبير و من حوله بيّارة تقول أمّي "إنّ الخيّال يسرح فيها و يمرح "، من كبر حجمها0

- تقصد "مساحتها "؟
- أجل ، مساحتها 0وأنتم أين ستسكنون ؟
- في بيت والديّ القديم ، طبعا 0 أبي يقول إنّ البرتقالة في بلدنا كانت بحجم حبّة " البوملي "0
- تقصد " مساحتها " ؟
-بل حجمها ، يا غبيّ !
- أنا الغبيّ ؟ أنت تعرف أنني إنّما أردت أن أمازحك ، أيّها التّافه 0

صفعني ثابت على خدّي و هرب 0 لحقت به صائحا :
- سأريك إن أمسكت بك0
- أنت فقط تجيد الكلام0

اغتظت فوجدت نفسي أركض بسرعة كبيرة مصرّا على الإمساك به0 و بعد ثوان فقط ، كنت قد أمسكت به من ياقة قميصه 0 رفعت قبضتي غاضبا على غير عادتي ، و لكنّ دويّا للرّصاص انطلق من إحدى ناقلات الجنود القريبة منّا جعل قبضتي تقف في مكانها 0إلتفتنا إلى أعلى الشّارع الرّئيسيّ ، فرأينا جنديا أردنيا متسمّرا في مكانه ، رافعا يديه إلى السّماء و ملقيا بندقيّته على الأرض0 قفز نحو الجنديّ أربعة جنود نزلوا من النّاقلة مصوّبين بنادقهم الرّشاشة نحو الجنديّ الذي باغته الموقف ، فركع الجنديّ على ركبتيه و وضع يديه متشابكتين خلف رقبته.التقط أحد الجنود البندقيّة عن الأرض 0 ركل الجنديّ بقدمه و صاح به بالعربيّة العامّية ولكن بلهجة غريبة عنها :
-" يالله من هون 0 روخ البيت ! "

تسمّر المرحّبون بالقوّات " العربيّة المساندة " و لم يقووا على الكلام0 نظر كلّ منهم إلى الآخر بصمت ، وانسلّوا ببطء إلى أن ابتعدوا عن عيون الجنود في الدّبابات و "المجنزرات" و الناقلات ، فركضوا هاربين داخل المخيّم صائحين :
- اليهود000 اليهود 000

فرّ ثابت من قبضتي مع الفارّين إلى أزقة المخيم صائحا مثلهم: " اليهود 00 اليهود" 0 و عندما وصلنا إلى بيته صاح به أبوه:
- و ما لنا بهم ؟ خذ صندوقي البوظة و " الأسكيمو" و اخرج بهما إلى القرية المجاورة 0 و لا ترجع قبل أن تبيعهما0
- ولكنّ الحرب لا تزال دائرة و أنا بنفسي رأيت جيش اليهود فوق المخيم0 النّاس كلّها خائفة ، فما بالك أنت ؟

تجاهله أبوه و كأنّه لم يسمع حرفا ممّا قاله ثابت :
-لا تنس أن تتوقّف بالحمار و أنت راجع في السّهل المحصود قمحه0 دع الحمار يتناول غداءه ، و اجمع له بعض القش للعشاء و لٌلإفطار . هذا الحمار يكون أحيانا أفضل منكم0 يكفي أنّه يتعب مثلكم ، بل أكثر منكم و مع هذا فهو لا يتذمّر مثلكم0 لا تنس أيضا أن تأخذ البيض و خبز "الطّابون" الذي تقايض به المرطّبات إلى أبي خميس البقّال 0إيّاك أن تقبل بأقلّ من قرش كامل ثمنا للبيضة أو للرّغيف0

لم ترق لثابت تلك النّظرة التي لمحها في عين والده السّليمة ، و لهذا فضّل الانصياع لطلبه بهدوء على الدّخول في مجادلة خاسرة تحرمه في نهاية الأمر من مصروفه اليوميّ 0لقد كان ثابت مستعدّا لكلّ شيء إلاّ أن يحرم من مصروفه اليوميّ 0 أمّا نظرة عين أبي ثابت الحولاء ، فلم ترق له أبدا 0كثيرا ما صارحني ثابت بمشاعره دون تحفّظ 0 قال لي مرّة:

- لا أحبّ أن أرى عينة الحولاء 0إنّني أرى فيها لؤم أهل بلدنا بعينه0 يقولون إنّ الحول منتشر بين أهل بلدنا أكثر من غيرهم لأنّهم يعتنون أكثر من غيرهم بزراعة الصّبر و بقطفه 0أنا أعتقد أنّهم كذلك لأنّهم يعمون أعينهم بكثرة الحملقة في المال0

كان يتندّر بأهل بلده و أحيانا بوالديه دون إحساس بضرورة المجاملة أو التّأنّق في اختيار الألفاظ0 من نوادره التي رواها عن غباء أهل بلده أنّهم ذات مرّة ربطوا مئذنة جامع المدينة المجاورة بحبل مطاطيّ ، فأخذوا يشدّونه معتقدين أنّهم يشدّون المدينة إليهم كلّما شدّوا قليلا من الحبل0 كنت أقول له :
- و لكنّك منهم أيضا ؟
- خسئت ، أنا ابن هذا المخيّم0 إنّه أبي و أمّي ، أمّا بلدنا الأصليّة ، فأعترف بأنّها جدّي و جدّتي ، أمّا أنت فابن جبع التي يفترض بها أن تكون جدّك و جدّتك ، لا أباك و أمّك 0 إنّك تعترف بجدّيك و تنكر والديك 0 إنّك تنكر المخيّم الذي ربّاك0 أنت ابن حرام0
- أنا لم أر أوقح منك 0
- لو كانت في بيتكم مرآة لرأيت من هو أوقح منّي !

كان لثابت منطق مقنع أحيانا في تحليل الأحداث 0 كان له منطق عمليّ في التّحليل ، يكسبه تأييد النّاس القلبيّ ، فتراهم يقتنعون بأفكاره و أحكامه ، حتّى لو بدت غير منطقيّة 0كان في أسلوبه الذي يحكمه الخبث الجريء و الوقاحة الحادّة حينا و الصّراحة الذّكيّة و الشّقاوة البريئة حينا آخر، ما يجعلني أحبّه و أتشبّث به رغم قسوة سلوكه في بعض المواقف،كالموقف الذي حدث عندما صفعني هذا الصّباح 0


ركب ثابت حمار أبيه و توجّه إلى القرية المجاورة ليبيع المرطّبات، بينما كنت وأبي نعتني بالعصفور ، و المُحبَطون الفارّون في طرقات المخيّم الدّاخليّة يهربون مرعوبين إلى بيوتهم000

خفّت حركة الناس في الطرقات 0 ظلّ دويُّ الطّلقات الناريّة يسمع بين الحين والآخر0 وإلى داخل كثير من البيوت دخل الجنود المهزومون يطلبون ملابس مدنيّة ، فيلبسونها و يفرّون ، فيحرق الأهالي ملابسهم العسكريّة إخفاءً لآثارهم0 عرفت منهم بائع اللّبن من القرية المجاورة0 كان يرتجف من الخوف0 سألته:
- ألستَ أحمد الذي يبيع اللّبن؟
- بلى ، أنا أحمد 0 ستركم الله - استروني0 أعطوني ملابس مدنيّة وخذوا هذه البندقيّة البلجيكيّة ، وسأكون لكم من الشّاكرين0

ساعدته في ارتداء ملابس أبي الشخصيّة ، فغادرنا و هو يريد أن يقبّل يد أبي امتنانا و عرفانا0 سألته ببراءة ساذجة متناهية :
- ألن تأتي لتبيعنا اللّبن ثانية ؟
- إن بقيت على قيد الحياة ، سآتي0

الوجوم و لا شيء غير الوجوم 00كانت " وجوه يومئذ عليها غبرة، ترهقها قترة "0حتّى أن أبي- الذي توقّعت له أمّي و جيراننا أن يفرح أو أن يتشفّى بهم ، لأن نبوءته الشرّيرة قد تحقّقت - فقد ازداد صمته المعهود صمتاً0 انزوى في غرفة النّوم رافضا الحديث مع أحد 0 أمّا معلّم الجزائر ، فقد اعتكف في بيته و كأنّ الأرض انشقّت و ابتلعته 0

أخذ بعض الجيران يحزمون ما خفّ وغلا ثمنه ، فودّع منهم المقيم المهاجر و الدّموع تنسكب هنا و هناك0 جاء أحد الجيران يحمل في يده مفتاحين أحدهما كبير قديم ، و الآخر صغير حديث0 و بعد جدال طويل مع أبي قال له :
- أرجو أن تبقي هذين المفتاحين عندك إلى أن نعود 0المفتاح الكبير لدارنا في عكّا ، و الصّغير لدارنا في المخيّم هنا 0

ودّعه أبي و اتّجه بكرسيّه المتحرك نحو سلّة القمامة ، فألقى فيها بالمفتاحين دون تردد0 حاولت أن ألتقط المفتاحين من القمامة فصاح بي أبي على غير عادته :
- أرجعهما إلى مكانهما0 إن عادوا سأعطيهم بيتنا كلّه ، لا مفتاحين صدئين فحسب0

زفر زفرة عميقة من قاع رئتيه و قال :
- متى سيتعلّم هؤلاء الأغبياء ؟ متى ؟ متى ؟
كانت أجهزة المذياع قد أخمدت في كلّ البيوت 0 اللهمّ إلاّ إذاكانت موجّهة على موجة بث " دار الإذاعة الإسرائيليّة من أورشليم - القدس " التي كانت تتلو البيان التّالي :
" نداء من جيش الدّفاع الإسرائيليّ إلى سكّان المناطق المحرّرة0 لقد دخل جيش الدّفاع الإسرائيليّ إلى مدنكم و قراكم0 ارفعوا الأعلام البيضاء، ولن يمسّكم جيش الدّفاع بأيّ أذى000"

مرّت الطّائرات فوق التّجمّعات السكنيّة ، فألقت إلى الأرض بيانات مطبوعة باللغة العربيّة تحمل ذات المضمون 0و قبل أن يحلّ الظلام كانت أمّي قد أرغمت أبي على الموافقة لها على النّزوح إلى عمّان و من هناك إلى بغداد للّحاق بركب أبيها الذي سبقها إلى هناك بعد مذبحة كفر قاسم، بعد أن فشلت في إرغامه هو على النّزوح معها0 لقد أجابها بصورة قاطعة :
- لن أخرج من هنا إلا جثّة هامدة0
- و من سيعتني بكَ و أنتَ لا تستطيع حتّى أن تعتني بأبسط حاجاتك الأوّليّة؟
- الحمد لله على أنّكِ لا زلتِ تذكرين شَلَلي 0 هذا ليس شأنكِ أنتِ 0 الموت عندي أهون ليس من الهجرة فحسب ، بل من أن تضيعيني في هذا الموقف0 أنا لا أريد شفقة منك 0كنت أريد منك أن تحترمي العلاقة الإنسانيّة التي تجمعنا0 اذهبي 0أغربي عن وجهي 0 قاتلك الله000قاتلك الله000 رحمكِ الله‘ يا سليمة0

أحسّ بإعياء فأمسك جبهته بكفّه و انسابت الدموع من عينيه و أدار عجلة كرسيّه إلى الوراء و اتّجه إلى غرفة النوم0 وجدت نفسي أبكي و أصيح:
- إذا لم يسافر أبي ، فسأبقى معه0 أيّ ضمير و أيّ قلب لنا لنسمح بذلك؟
-اذهب معها يا فرحان0 اذهب يا بنيّ 0

حملت أمّي متاعنا الخفيف ، أمّا أنا فانسللت إلى أبي مودّعا إيّاه بحزن عميق0 هزّ أبي كتفيّ بقبضتيه قائلا:
- لا تقلق0 يا فرحان0 سأعتني بعصفورك 0
- لا يا أبي0 أنا لا أريده 0 أطلق سراحه0 لا أريده0 لماذا أريده بعد الآن، إن كنت‘ سأفقدك ؟
أغلق أبي بكفّه فمي قائلا :
- إيّاك أن تقول هذا0

شدّتني أمّي من ملابسي فانفصل فمي عن يده التي بقيت مكانها في الهواء محافظة على رهبة هذا الموقف 0

وصلت بي أمّي و نحن في أشدّ أيّام القيظ الحزيرانيّ إلى مخيّم آخر للاّجئين يقع شرق هذا المخيّم ويطلّ عليه ، فأعاقتها عن الهرب قريبة لها كانت أمّي تكنّ لها عظيم الاحترام 0قالت لها القريبة :
- اسمعيني جيّدا 0لو أراد بكم اليهود شرّا لقتلوكم عندما دخلوا المخيّم 0
- و لكنّهم قتلوا جنديّين قرب المخيّم 0 و يقال إنّهم قتلوا آخرين في أماكن أخرى0
- لقد قلتِها بنفسِكِ " قتلوا جنوداً" و لم يقتلوا مدنيّين0 فَلِمَ هذا الفزع المبالغ به؟ ثمّ إنّكِ أنتِ بنفسِكِ كنتِ تتمنّين وقوع الحرب ، فما الذي كنت تتوقّعينه من الحرب غير القتل و الدّمار ؟

تاهت أمّي في أفكارها و تلعثمت و لم تدر بماذا تجيب 0 واصلت قريبتها:
- ثمّ كيف تتركين زوجك على هذا الحال من العجز و تهربين؟ سامحك الله على قسوتك0 نامي وابنك عندنا اللّيلة، و في الصّباح تعودين إلى داركم0 على الأقل، هنا، أنت في مأمن0 نحن بعيدون – بعض الشّيء - عن خطوط الجيش الرّئيسيّة، و نستطيع أن نكتشف إذا كانوا يريدون إيذاء أحد في ذلك المخيّم ، قبل أن يصلوا إلينا0

ارتاحت أمّي و ارتحت أنا أكثر منها للفكرة، فقلت راجيا أمّي بدلال مصطنع :
- أجل ، يا أمّي ، غدا صباحا نعود إلى أبي0 استحلفك بالله أن نبقى هنا ، فنعود غدا0

بالنّسبة للآخرين ،كانت ليلة أحسّوا فيها بأنّهم قد دفنوا أحلامهم التي طالما داعبت خيالاتهم طوال التّسعة عشر عاما الماضية ، فودّعوها بقراءة الفاتحة على روحها و بالتّمتمات الهامسة بسور قرآنيّة كسورة "النّاس" و "الفلق" و "يس" ، خشية من الأشباح التي خلّفها هذا القتل الصّاعق لعروس كانت ستزف في هذه الّليلة 0 أمّا بالنّسبة لي ، فقد اتّسعت جراحي القديمة التي كان قد حفرها في ضميري شعوري بمسئوليتي القديمة عن إصابة أبي التي أدّت إلى شلله و بمسئوليّتي الحديثة عن خذلاني لأبي بهذا الهروب الشّائن 0

مرّ اللّيل بسلام و لم يخل الأمر من رصاصة هنا و رصاصة هناك0 و طلع الصّباح كأيّ صباح آخر، و لكن دون "أحمد سعيد" و دون أن يتناول سمك البحر المتوسّط المتضوّر جوعاً "وجبته الموعودة"، لأنّ الجيش الإسرائيليّ كان قد احتل من الدول العربيّة المهزومة أراض تزيد مساحتها عن أربعة أضعاف المساحة المغتصبة سابقا من فلسطين 0

زيارات تعليقات
تقييمات : [0]
  
3122 0
عرض الردود
شاركنا رأيك

أدخل ناتج جمع العددين 2 و 5
الشاعر راضي عبد الجواد